لمّا كانت المشروعية الزائفة للإمامة السلالية قائمةً على ادِّعاء أفضلية أناس معينين دون غيرهم من أصحاب الحق وأبناء الأرض، تم ابتداع منظومة من “البروتوكولات” التي تكرّس التفرقة العنصرية بين “العترة الطاهرة” وبين ما عداهم من الناس؛ فهُم “السادة، الأشراف” ويأتون على قمّة السلم الاجتماعي يليهم القضاة، ثم القبائل، ثم ذوي الحرف، ثم المزاينة، ثم الدواشين، ثم الأخدام.
تقسيم بقية الطبقات كان أمراً ضرورياً وفق هذه النظرية العنصرية، يبرر مبدأ التمايز من أساسه.. وعلى هذا لا تتزوج “الشريفة” “بقبيلي” (وتسمى بالشريفة فيما بنت القبيلي تسمى “الحرة” وكأنها كانت جارية تمّ عتقها). ثم “برستيج” المصافحة القائم على الانحناء وتقبيل الركبة، وقد اختلف علماؤهم اختلافا شديداً حول جواز تقبيل الأقدام لما يكتنفه من مظان السجود، فقيل يجب، وقيل يجوز، وقيل مستحب، يؤجر فاعله ولا يؤثم تاركه!!
إلى ذلك، ثمة تمايز عبر المناداة، فتتم مناداتهم بصيغة الجمع. ثم مسألة الألقاب والتسميات فلهم شرف الدين وأمير الدين والمظفر والمطهر والمؤيد والشريف والمنصور… وللآخرين ماشاؤوا دون ذلك، من ألقاب بعضها مدعى للسخرية.
أما في قضية الرداء واللبس، فإن “توزة” السيد تختلف عن “عسيب” القبيلي، وعمامته تُغاير مشدة الشيخ، وويل لمن تزيّا بغير زيّه وتسمى بغير اسمه وظهر بغير أصله!
وبالتالي حاول المجتمع بدوره المجاراة. وانسابت تفصيلات عدة للتمييز على أساس المهنة، وعلى أساس العرق، وعلى أساس المنطقة، وعلى أساس اللهجة. وهكذا يصبح التناحر سلاح المحتقَرين فيما بينهم.
والمؤكد أن الأئمة، والهاشميين عموماً، عمدوا، في واقع الممارسة، على إظهار فروقات شتى في التعامل والسلوك إثباتاً لنظرية التمايز؛ فكان التكذيب التلقائي لمن يتحدث، وكان اعتمادهم تحليل خساسة النوايا بأسلوبٍ مزّاح يدحرج الخساسة نفسها إلى السلوك فيما بعد.
ومن هنا تفاقم الشعور بين الناس بشيوع التحايل كقاعدة، وقلّ فيما بينهم عنصر الثقة، وانتشرت قواميس المنابزة الحِرَفية والمناطقية وتفسيرات “الشيطنة، والملعنة، والمعراصة، والبعساس، والزنقلة” فأصبح حُسن النية في التعامل يفسر من باب الغباء، وصار الاحتراز متفشياً والتربص واقعاً. فانقلبت موازين القيم ليصبح عدم الالتزام بدلالة الزي –مثلاً- أشد إثماً من الكذب. ويصبح الغناء خطيئة فيما الذل والهوان والخيانة مخارَجة وتوقياً وذكاءً.
– من كتاب: الزهر والحجر.