ها هو عيد الثلاثين من نوفمبر يهل علينا من جديد ليذكرنا بمرور ثلاثةٍ وخمسين عاماً على أول يوم ترتفع فيه راية الجنوب عاليةً في سماء عدن وسماوات كل المدن والأرياف الجنوبية ابتهاجا بالاستقلال الوطني ورحيل آخر الجنود البريطانيين بعد 129 عاماً من التبعية والاستعمار ومصادرة القرار السياسيي السيادي لأبناء الجنوب في مدنهم ومناطقهم وجهاتهم الجغرافية وسلطناتهم وإماراتهم ومشيخاتهم المختلفة، وهي التسميات المعروفة للمناطق الجنوبية منذ أزمنة غابرة.
رحيل الاستعمار البريطاني عن عدن وكل أراضي الجنوب لم يكن مجرد إجراء روتيني تنفيذا لاتفاقية جنيف بين وفد الجبهة القومية قائدة الثورة الجنوبية، ووزارة المستعمرات البريطانية، بل كان ثمرة كفاحٍ سلمي ومسلحٍ دام عقودا طويلة من الزمن، بدأ يوم 19 يناير 1839م ولم يتوقف إلا ليُستأنَف من جديد.
واتخذ هذا الكفاح أشكالا مختلفة، منها المواجهات والتمردات العفوية والقبلية المسلحة، ومنها الانتفاضات الجماعية في مدن وأرياف الجنوب، ومنها بطبيعة الحال المقاومة السلمية التي اتخذت شكل الإضرابات والمسيرات والاعتصامات التي شهدتها عدن ومدن جنوبية كثيرة خصوصا بعد نشوء الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والتنظيمات المجتمعية المختلفة منذ مطلع خمسينات القرن العشرين.
ولا ننسى دور بعض الوجاهات والقيادات القبلية الوطنية التي رفعت الصوت عاليا مطالبة برحيل الاستعمار من أرض الجنوب، لتأتي ثورة الرابع عشر من أكتوبر مشكلة التتويج المنطقي والطبيعي لكل هذا التاريخ الطويل والمشرق من المواجهة والمقاومة الرافضة للاستعمار والتبعية منذ بداية المشروع الاستعماري.
كان تحقيق الاستقلال الوطني واستعادة القرار السيادي الجنوبي في ذلك اليوم العظيم حدثا استثنائيا هاماً في تاريخ الجنوب الوسيط والحديث، لكن الأهم من هذا هو ما ترتب على هذا الحدث الكبير من تحولات جذرية نقلت الجنوب بكل مناطقه وجهاته وفئاته الاجتماعية وكل مواطنيه، من مجرد مجموعة دويلات مفككة ومتناثرة ومتنازعة (في غالب الأحيان) ومن كيانات مجهرية إلى دولة جديدة موحدة بمساحة 137 ألف كيلو متر مربع تمتد من قشن وصرفيت وحبروت شرقاً حتى باب المندب وأرخبيل حنيش غرباً وما تحمله من مقومات الدولة العصرية الحديثة.
كان توحيد 23 سلطنة ومشيخة وإمارة في دولة واحدة تقوم على الدستور والنظام والقانون والحياة المؤسسية والمواطنة المتساوية حدثا تاريخيا لم يكن من الممكن قيامه لولا انتصار ثورة 14 أكتوبر وتحقيق الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م.
لقد فتح الاستقلال الوطني الأبواب على مصاريعها أمام أبناء الجنوب لبناء حياتهم الجديدة القائمة على التنمية وتحسين حياة الناس وتعليمهم ومكافحة الأوبئة والأمراض وبناء اقتصاد وطني مستقل يساهم في رفع مستوى معيشة المواطنين، اقتصاد يلبي حاجة السوق المحلية من البضائع المستوردة بالعملة الصعبة ويساهم في تنمية القطاعات الإنتاجية ورفد موازنة الدولة بالمزيد من الموارد المالية.
كان النهوض الذي شهده جنوبنا الحبيب في مجالي الصحة والتعليم قد مثل نقلةً نوعية في حياة المواطنين الجنوبيين، حيث سجلت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية مركزا متقدما على مستوى المنطقة العربية في مجال التعليم ونوعيته والقضاء على الأمية وتحقيق التعليم المجاني لكل شرائح المجتمع من روضة الأطفال حتى الجامعة.
كما وصلت الخدمة الطبية المجانية إلى كل مدن وقرى وأرياف الجنوب، وبموجب خطط محكمة جرى استئصال العديد من الأمراض والأوبئة أهمها الجذام والجدري والتيفوئيد والملاريا والأمراض الستة.
وتكفلت الدولة الجنوبية بكل متطلبات وأعباء التطبيب والاستشفاء من مقابلة الطبيب والتشخيص والفحوص والأشعة إلى صرف وصفة الدواء وإجراء العمليات الجراحية المعقدة في الداخل والخارج، وكل ذلك على نفقة الدولة ذات الموارد المحدودة.
ويمكن الحديث طويلا عن المنجزات الوطنية التي تحققت في مختلف المجالات القانونية والقضائية والأمنية والاجتماعية ومحاربة الفقر واستئصال الجريمة وكل ما تحقق بفضل الاستقلال الوطني في الثلاثين من نوفمبر 1967م في مختلف مجالات الحياة مما لا يتسع المجال للحديث عنه في هذه العجالة.
نعم لقد تمكن غزاة 1994م من إزالة معظم هذه المنجزات العظيمة لثورة أكتوبر واستقلال نوفمبر لكنهم لم ولن يزيلوها من ذاكرة الجنوبيين الذين يتناقلون ذكرياتها جيلا بعد جيل.
وإذا كانت هذه الذكرى الوطنية العظيمة تهل علينا هذا العام وشعبنا الجنوبي يخوض معركة المصير مع من يريدون إعادة عجلة تاريخه إلى الخلف فإن أبناء وأحفاد جيل أكتوبر ونوفمبر مؤهلون لحمل الراية التي تسلموها من آبائهم وأجدادهم حتى استعادة السيادة الجنوبية كاملة دونما نقصان على كل أرض الجنوب، وإفشال كل مساعي إعادة إخضاع الجنوب لقوى الغزو والنهب والاستكبار والاستعلاء والفساد والهمجية.
سيظل نوفمبر خالدا في ذاكرة الأجيال وستبقى شعلته متقدةً لن تنطفئ ما بقيت في الجنوب دماءٌ تنبض بالحرية وقلوبٌ تعشق الكرامة والسيادة وتتطلع إلى المستقبل الآمن المستقر والمزدهر بعيداً عن أي تبعية أو إملاء أو وصاية أو ضم وإلحاق.
الخلود لشهداء الثورتين الجنوبيتين الأولى والثانية.
والشفاء للجرحى والمصابين.
والمجد لنوفمبر المجد الأبدي.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك