هناك جرائم جسيمة تسجل تباعاً في روزنامة المخا، وما يزال يحدث كثير منها في أوقات متباعدة، ومتقاربة أحياناً، وقد لا يعلق بها أكثر المتابعين أي أهمية.. ربما اعتبرها حوادث عابرة تقع في أي مكان.. حسناً، لنفرق بين العابرة والمقصودة، فهذا سائق كان يوم 14 نوفمبر يسوق سيارة في شارع عام بالمخا دهس طفلين، أحدهما سامح الذي مات لفوره، والثاني شقيقه نواف الذي تكسرت عظامه.. حادثة كهذه تقع مثلها كثير في غير مدينة وغير طريق، وإذا كان مرتكب حادثة المخا الأخيرة قد ترك ضحيتيه على الزفت وفر، فإن سواقين كثراً ضمائرهم حية لا يفرون، بل تراهم يجبرون ما كسروا.. لكن لا ينبغي أن نتعامل مع جرائم أخرى مختلفة بالمعيار عينه.. مثلاً: مجهول يزرع عبوة ناسفة عند برج الاتصالات.. عصابة تترصد قيادياً عسكرياً تهامياً بغية سلب رشاش وطقم عسكري كانا بحوزته، وحين وجدته في حالة استرخاء تحت ظل شجرة بالمخا قتلته ونهبت ما بحوزته، وفرت.. وقبل أيام قلائل كان الدكتور ياسر محمد الشلح مدير مكتب الجرحى في المقاومة الوطنية يقود سيارته في الطريق العام، وعند وصوله يختل أطلق عليه عسكر من لواء الدعم والإسناد بضع رصاصات، وبعد ذلك لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى الذي نقل إليه.
ها هنا سيقال إن سائق السيارة كان يسوقها بسرعة عالية وإن الطفلين لم ينتبها كفاية، وإن صاحب العبوة الناسفة ربما اراد التخلص منها فرماها عند البرج، وإن العصابة التي قتلت الرجل ونهبت الطقم والرشاش هي أصلاً عصابة إجرامية تتكسب عن طريق السلب والنهب، وإن العسكر الذين اغتالوا الدكتور ياسر الشلح، عسكر منقطعون عن الخدمة، أقدموا على فعلتهم بذريعة أن مرتباتهم موقوفة، وبالتالي لا توجد دوافع سياسية من وراء هذه الحوادث.. هكذا دون طرح سؤال من قبيل: هل كان الدكتور الشلح هو المعني بصرف المرتبات أو توقيفها؟ وقد يكون مفهوماً فرار سائق السيارة بعد دهسه الطفلين سامح ونواف، لكن لماذا فر الذين اغتالوا الدكتور الشلح قبل معرفتهم هل أصابوه أم لا، وهل مات أم شفي؟
بالنسبة لنا الأمر مختلف.. فهذه الجرائم الأخيرة ليست عفوية، هي مثل التي سبقتها منذ العام 2019.. أسبابها ودوافعها ليست كما ينظر إليها الذين يبسطون القضايا صغيرها وكبيرها فيخدعون بذلك أنفسهم ويضللون قياداتهم.. هي حلقات من سلسلة طويلة، أعدت لاستهداف المقاومة الوطنية، وعلاقاتها بالقوى الأخرى بما في ذلك شركاؤها في القوات المشتركة.
فمن هي الجهات التي يحتمل وقوفها وراء ذلك يا ترى؟ إن الجماعة الحوثية خصم سياسي وعسكري وأمني، لا شك في ذلك.. فمنذ بداية العام 2018 وهي تتمنى أن لا ترى أي وجود للمقاومة الوطنية، ومن أجل ذلك فعلت الكثير الكثير: دبرت أكثر من محاولة لاغتيال قائد المقاومة في مناسبات مختلفة، وما تزال مستمرة في المحاولة، خاصة بعد أن جوبهت بقوة خلال التصعيد المتكرر في مدينة الحديدة، الدريهمي، حيس والتحيتا.. لم تكسب أي مصلحة من الأفراد الذين تركوا صفوف المقاومة وعادوا إلى صنعاء.. لم يغنِها تنظيم داعش في شيء عندما جمعته بها مصلحة، وقد كان عندها ذاك الذي يعول عليه.. من يتذكر هجمات المخا 2019؟ فقد أوعزت الجماعة الحوثية إلى جماعة من تنظيم داعش الإرهابي، يتزعمها وليد الوافي تنفيذ عدة هجمات إرهابية في المدينة، لأغراض استفزاز القوات المشتركة، والإيحاء للسكان أن وجود العفاشيين في الساحل الغربي يقوض الاستقرار.. كما في الجريمة التي نفذها حليف الحوثية نهاية يناير 2019 في مدينة المخا.. دراجة نارية مفخخة تم توقيفها أمام مطعم وسط المدينة حيث توجد فرزة سيارات نقل الركاب عبر المحافظات.. تم تفجير الدراجة المفخخة عن بعد فقتل في هذا الهجوم خمسة أشخاص أبرياء من بينهم زياد الشرعبي فني المونتاج بشركة يمن ديجيتل للإعلام، وأصيب رفيقه الشميري مصور قناة أبو ظبي.. وزرعت ذات الجماعة عبوتين ناسفتين في طقم عسكري لقوات العمالقة الجنوبية أثناء توقفه قرب سوق القات بالمخا، وتم تفجيرهما عن بعد مما أدى إلى قتل أربعة أشخاص وإصابة ثمانية بجروح.. تحدث إعلام جماعة الإخوان حينها عن استهداف قوات العمالقة من قبل المقاومة الوطنية- حراس الجمهورية.. جدير بالإشارة هنا أن معظم أفراد الجماعة الإرهابية نفسها انتقلوا بعد ذلك إلى البيضاء تحت نفس المسمى، ليعملوا لمصلحة الحوثيين مقابل أجر، وبالمكشوف، قبل أن يدب الخلاف بين الجماعتين الإرهابيتين في الشهور الأخيرة، ولعل لذلك علاقة وثيقة باغتيال حسن زيد.
على أن قولتنا عن الجماعة الإرهابية، وصدى جريمتها في إعلام جماعة الإخوان المسلمين، لا تشير نحو محور تعز.. إذ يصعب -في الوقت الحالي على الأقل- التثبت من وجود علاقة لحكام مدينة تعز بهذه الحوادث، ففي الشهور الأخيرة توقفت قيادة المحور العسكري في تعز عن مهاجمة المقاومة الوطنية، كما توقفت عن التحرك باتجاه الساحل، ومن المحتمل أن يكون لهذا الأمر تفاهمات غير معلنة.. أو أن له علاقة بالحالة المزرية، أو المعاناة اليومية التي تكابدها قيادة المحور في مدينة تعز وضواحيها -حيث الاختلالات الأمنية والمواجهات المسلحة بين الفصائل، وتصفية الحسابات بين العصابات، وجرائم القتل- قد صارت مظهراً من مظاهر الحياة اليومية هناك.. أو لعل قيادة المحور التي شغلت بهذه الحالات، قد عوضت طموحاتها السابقة من خلال ترك المهمة لميليشيا جماعة الإخوان المسلمين، والتي أظهرت قيادة المحور عدم قدرة في السيطرة عليها، وبالتالي إخلاء مسؤوليتها عن نتائج سلوك هذه الميليشيا.